Wednesday, September 26, 2012

غربة

مُرّة طبعا.. كل غربة مرة.. وبأقول "كل" لأن فيه كذا نوع من الغربة.. الغربة اللي فيها الواحد بيسافر وبيعيش في بلد تانية عشان يدرس أو يشتغل أو يتعالج لوقت طويل بتحسس ناس كتير بمرارة..

مرارة الغربة بتبقى لكذا سبب.. يبقى نفسك تشوف أصحابك أو أهلك.. نفسك تقعد على نفس القهوة أو تتفرج على الماتش في نفس المكان.. تبقي عايزة تخرجي مع صحباتك تاكلوا أو تشتروا لبس.. تبقى نفسك تمشي في نفس الشوارع في البلد اللي اتولدت فيها.. ولأن توجّه الناس ناحية الغربة المكانية بيختلف من حد للتاني فبرضه بنلاقي محاولات مختلفة "لتحلية" مرارة الغربة دي.. ناس بتستخدم التيليفونات وSkype وكل اللي التكنولوجيا بتحاول تقدمه عشان تقرب المسافات.. ناس بتحاول تسافر كل فترة للبلد اللي اتولدوا فيها عشان يقضوا وقت مع العيلة وياكلوا في بلبع ويخرجوا مع أصحابهم.. فيه ناس بتحاول تشوف أي حد "من ريحة" البلد.. فلو فيه حد من الأصحاب أو القرايب أو حتى معارف مش قريبين قوي بيحاولوا يرتبوا يشوفوهم لو أي حد منهم جاي زيارة للبلد اللي فيها المغترب "بيتنشّق" على أي حد بيتكلم لُغته ويشاركه أخباره ويضحك على نفس نكته ويطمنه على أخبار البلد..

وعلى قد ما النوع ده من الغربة مُرّ إلا إنه محدود بوقت.. يا إما المغترب بيرجع بلده ويستعيد الذكريات ويقرر إنه عُمره ما هيسافر تاني.. أو معظم أسرته بينضموا ليه وبتقل الغربة شوية لأن حبايبه معاه.. أو بيبدأ يتعود على المكان الجديد ويتحول مكان الغربة لمكان أقرب وأحب ,ويبدأ شوية بشوية يتأقلم.. بل ساعات الموضوع يتحول لصدمة حضارية لو الشخص ده رجع لبلد ميلاده وبيسمّوه Reverse Culture Shock أو صدمة حضارية معكوسة..

إلا إن الغربة اللي حابب أتكلم عنها هنا هي الغربة الفكرية.. الغربة اللي ممكن تحس بيها وإنت وسط أهلك وناسك أو بعيد عنهم.. وإنت ماشي في شوارع القاهرة أو وإنت في باريس وماحدش بيتكلم لغتك.. غربة مرارتها أكتر من مرارة أي غربة مكانية..

في الغربة الفكرية بتبدأ تحس بإن التواصل الفكري بينك وبين أصحابك أو أقرب الناس ليك بيتلاشى.. إحساس إنك بتتكلم مثلا عن الحرب العالمية التانية وهم بيتكلموا عن الخناقة اللي حصلت في الشارع.. الموضوعين مهمين لكن التباعد الذهني اللي بينهم بيخليك حاسس بغربة مرّة.. وكل اللي الناس بتفتكره هو إننا مختلفين في "الرأي".. في حين إن الاختلاف أعمق بمراحل.. الاختلاف في طريقة تكوين الرأي.. في "منطقية" المعتقد..

مصيبة الغربة ده إن "تحليتها" صعبة.. محاولة التحكم في مرارتها بتزودها.. لأنك بتكتشف إن مافيش طريقة تخلي أصحابك يتواصلوا معاك على نطاق فكري.. مهما خرجتوا مع بعض.. مهما اتفسحتوا أو اشتريتوا أكل وأكلتوا مع بعض.. مهما اتفرجتوا على ماتشات سوا القُرب الفكري مش بيزيد تلقائيا.. بل بالعكس بتلاقي نفسك بتبان كأنك "عامل نفسك" بتفهم.. "مش عاجبك العجب" وعمّال "تتفلسف" وتقول "الكتاب الفلاني بيقول كذا" أو "في البلد الفلانية بيعملوا كذا".. وبالتالي الإحساس العام بيكون إحباط ليك واستغراب من أصحابك..

في الغربة الفكريةSkype والتيليفونات مش هتساعد.. وعمليا مش هينفع كل ما تختلف مع صاحبك في "المنطق" اللي بيستخدمه مش هاينفع تديله كتاب يقراه!

الاغتراب الفكري من أصعب وأمرّ أنواع الغربة.. وبيزيد كل ما الواحد بيحس إنه "خلاص.. أنا هاأفضل أقرا وأتعلم وأستكشف وأسمع آراء ناس تانية.. وهاأبطل أتناقش مع أصحابي عشان ما أخسرهمش"..

طول ما التواصل الفكري مش مشبع, غربة من النوع ده كفيلة بإنها تسيب إحساس صعب لفترة طويلة.. مُرّة فعلا..

Sunday, September 23, 2012

موافقون


عدد الأبحاث العلمية اللي اتعملت عن "العمل كفريق" عدد كبير جدا.. وكتير من الأبحاث دي بيناقش إزاي فريق العمل بيتكون وإيه المراحل اللي بيمر بيها لحد ما يخلّص المهمة بتاعته وإيه أسلوب إدارته وغيرها من التفاصيل.. كمان أبحاث كتير بتشوف تأثير وجود ناس من خلفيات وجنسيات مختلفة جوة الفريق ومدي فاعلية أو ضرر ده للعمل ككل..

لكن من ضمن الظواهر اللي ناقشتها أبحاث كتير هي ظاهرة تميل للسلبية موجودة في كتير من فرق العمل خصوصا فرق العمل اللي بتشتغل مع بعض لوقت طويل وفاهمين بعض ومتعاونين.. الظاهرة دي سمّوها Groupthink أو "تفكير المجموعة"..

الظاهرة دي زي ما باين من الاسم بتشرح التوجّه العام لأسلوب التفكير جوة المجموعة مش أسلوب تفكير الأفراد منفصلين.. وفي كتاب شهير اسمه Management and Organisational Behaviour بيشرح الظاهرة بإنها "تدهور في الكفاءة الذهنية واختبار الواقع والحكم العقلاني كنتيجة للضغوط الناتجة عن الانتماء للمجموعة" وفي حالات كتير تفكير المجموعة ممكن بسهولة يخلي المجموعة ككل تبعد عن التفكير السليم والواقعي.. الكتاب بيكمل ويقول إن الظاهرة ممكن تكون موجودة في أي مجموعة بيُعتمد عليها بطريقة أو أخرى في صنع قرارات..

من علامات وجود "تفكير المجموعة" حاجات كتير زي مثلا: التفاؤل الشديد واتخاذ قرارات فيها مخاطرة مع إحساس عام في المجموعة بإن المجموعة دي بالذات أقل عُرضة للخطر من غيرها (ولأن المسئولية متوزعة على الكل مش واحد بس.. بيبقى أسهل إن المجموعة كلها تخاطر).. أي اعتراض من برّة المجموعة على قرارات المجموعة بالإجماع غالبا بتُواجه بالتبرير.. اقتناع تام بوجود مبادئ ومثل أخلاقية للمجموعة وده بيخلّي برضه فيه إحساس عام بإن الحاجات اللي بيقرروها "صح" "على طول" أو على الأقل تحمل كل الميول السليمة..

والحاجات دي من المفترض إنها تزيد في المجموعات الأكثر قُرب وتفاهم بين أفرادها.. اللي بيزوّد المشكلة إن بيكون فيه ميل من الأفراد "للمواءمة".. يعني محاولة إني أقول رأي "شبه" الرأي اللي متوقع الأغلبية يقولوه.. ده أسهل وأضمن وبيزوّد "وحدتنا وقوتنا" كمجموعة.. والخطوة دي بالذات بتقود لخطوة أخطر وهي إن أغلب أفراد المجموعة "بيفلتروا" كلامهم واقتراحاتهم قبل ما بيقولوها.. وبالتالي الموضوع "بيتنيّل زيادة" لأن الإحساس العام إنه "كلنا موافقين" أو "آراءنا متشابهة جدا" وإن "مافيش خلاف" بيزّود فكرة تفكير المجموعة وكل المخاطر بتاعته..

يمكن ده يسهّل شوية إننا نفهم ليه كل اللي بيشتغلوا في نفس الحكومة غالبا بيتكلموا زي بعض وبيشوفوا المعارضة بنفس الطريقة وبيستخدموا تعبيرات متشابهة.. ومش بس الحكومات.. لكن الناس اللي بتشتغل مع بعض وقت طويل.. الجماعات الدينية اللي مقفولة على نفسها لفترات طويلة (سواء بقى شباب أو مش شباب).. بعض الجامعات أو المؤسسات المختلفة اللي ببساطة أي حد برّاها بيبقى شايف الحقيقة واضحة "زي الشمس" لكن تلاقيهم كلهم بيقولوا نفس الكلام.. واللي ساعات بيحيّر أو يغيظ هو إنهم – مش دايما ومش كلهم – بيكونوا أُمنا في آراءهم.. وجايز يكون هو ده "غسيل المخ الإرادي".. أو "إعادة البرمجة التدريجية" لكل فرد موجود في جماعة وبيسعى لأنه "يتوافق" و"يبقى زي الباقيين"..

الآراء الجديدة والزوايا المختلفة لمواضيع كتير مش بتيجي "بالخبرة".. بتيجي باحتكاك بناس تانية.. ناس مختلفة "عننا".. "إحنا" ممكن نكون المكتب اللي شغال فيه أو الشلة اللي ليل نهار معاهم أو الجماعة الدينية اللي بأتبعها أو الحزب اللي مش بأقرا أفكار لغيره..

وعلى قد ما فِرَق العمل بتبذل مجهود ضخم عشان "تقرّب" الناس من بعض عشان ينفع يشتغلوا كويس, فأعتقد إن المجهود اللي محتاج "يكسر القوالب" بتاعة تفكير المجموعة ممكن يكون مجهود أصعب ومحتاج حد يلاحظه..

أيوة طبعاً فيه صعوبة لو فريق العمل مافيهوش توافق.. لكن فيه برضه خطورة لو كل حاجة بيقولوها بيتقال عليها "موافقون"

Tuesday, September 18, 2012

دوّر عليه تلقاه


في أحد مؤتمرات TED كان الموضوع عن البحث على الإنترنت عموما..والمتكلم Eli Pariser استعان باللي قاله مارك زوكربرج مرّة إن "لو سنجاب مات قدام بيتك دي هتكون معلومة ليها علاقة بيك وتهمك أكتر من لو ناس بتموت في أفريقيا" والمقصود منها كان التوجّه العام سواء على فيسبوك أو محركات البحث (حلوة محركات البحث دي) إنه لما تدوّر على حاجة تلاقي النتايج بحسب مدى "أهمية" المعلومة "ليك".. على حسب ميولك والحاجات اللي بتدوّر عليها باستمرار والمواقع اللي بتدخلها بصفة مستديمة..

الناس اللي فاكرة نفسها أشطر شوية وعايزين نتايج بحث "حيادية" ممكن يسجلوا الخروج (حلوة دي برضه.. يعني to sign out) قبل ما يبدأوا يعملوا البحث.. ناسيين إن "نوع الكومبيوتر نفسه" و"البلد" اللي بيتعمل منه البحث و"متصفح الإنترنت نفسه" هي كلها حاجات بتأثر على نتيجة البحث.. لو اتنين عملوا بحث على نفس الكلمة في نفس الوقت على جووجل مثلا في مكانين مختلفين هتطلعلهم نتايج مختلفة بترتيب يتناسب مع اللي "الإنترنت" شايفاه مناسب لكل واحد

طيب.. حلو الكلام؟.. لأ طبعا.. مش حلو.. مش حلو لأنه بيخلّيك تلاقي اللي إنت "عايز" تلاقيه.. مش اللي إنت "محتاجه".. مش اللي إنت غافل عنه.. مش الحاجة الأكثر أهمية عموما..

فاللي بيحصل إننا بنعمل زي اللي بيغنّوا على بعض.. الطرفين بيتكلموا في نفس الموضوع وليهم نفس الرأي.. ويفضلوا يقولوا ويعيدوا ويزيدوا فاكرين إن هي دي كل القصة وإن أبعاد الموضوع كلها في الكام نقطة اللي هم بيتكلموا فيها..

فتلاقي كل أصحابك المسيحيين على فيسبوك بيعملوا sharing لنفس الصورة وتفضل الصورة تلف تلف.. ونفس الفكرة أصحابك المسلمين على خبر مختلف.. وكل طرف شاعر إنه عنده كل الحقيقة لأنه كان أمين وعمل بحث حيادي!

جووجل عايز "يريحنا" ويبسطنا.. مش عايز يزعلنا بنتايج بحث مختلفة أو صادمة.. عايزنا نلاقي اللي إحنا عايزين نلاقيه.. نلاقي اللي إحنا فاكرينه نتايج بحث لكنه ما هو إلا "تقليب" في الأفكار والأخبار والتوجهات اللي بتريحنا..

على قد ما الإنترنت شال العوائق إلا إن "اللي بنميل ليه" و"أذواقنا" و"أفكارنا السياسية" بقت النهاردة بتشكل عائق ضخم ناحية أي فكر "آخر".. الفكر الآخر بقى مجرد "تفرّع" للفكر بتاعي.. "شكله" آخر.. لكنه ما هو إلا نفس الفكر بتاعي بالظبط بس حالق دقنه أو لابس لبس مختلف..

لو طول الوقت باأقرا اللي مناسب لأفكاري وباأتفرج على البرامج اللي تسمّعني اللي على هوايا إمتى هتجيلي الفرصة إني أطوّر وأحسّن وأهذّب من فكري؟ إمتى هييجي الوقت اللي أنبهر وأُلهم بفكر جديد أو منظور مختلف لمشاكلي؟ ولو طول الوقت الدولة بتمنع أي فكر أو معتقد أو مذهب "شايفاه" خطر إذاً هل هنفضل نكلم بعض باللي كلنا عارفينه ومقتنعين بيه وماعندناش أي فكرة عن الأفكار المختلفة؟

محتاج أبدأ أدوّر على اللي محتاجه.. مش عايز أفضل ألاقي اللي مستنّي ألاقيه..

Saturday, September 15, 2012

الكلام عن الكلام

استخدامات اللغة كتير لكن لو فيه أهمية واحدة بس للغة فأكيد أهميتها هي التواصل.. سواء الناس استخدمت لغة فصحى أو عامية أو لغة دارجة فيها مفردات جديدة فالهدف الأول المفترض يكون التواصل..

لكن فيه تعبير في اللغة اسمه "ما وراء اللغة" أو metalanguage .و ما وراء اللغة هو "اللغة المستخدمة للكلام عن اللغة".. يعني الكلام الي بنقوله وإحنا بنتكلم عن الكلام نفسه! زي مثلا لما نبقى قاعدين بناكل أو نحكي وبعدين أقولك "إنت عارف إن الإسكيمو عندهم 100 كلمة لوصف التلج؟".. هنا أنا بأتكلم عن "كلمات" سواء في لغة تانية أو في نفس اللغة.. وغيرها كتير من المواقف اللي بتلاقي نفسك بتقول لحد "إنت عارف إن كلمة بوسطجي وعربجي وبلطجي وغيرها من الكلمات اللي نهايتها ـجي بتدل على الوظيفة؟ وإن أصلها اللغة الفلانية؟"

وعلى الرغم إن بعضنا بيحب فكرة معرفة أصل الكلمات وإيه اللي أصلا تركي وإيه اللي من الفرنساوي وهكذا.. لكن تخيّل لو طول الوقت واحد صاحبك مش بيعمل غير إنه "يتكلم عن الكلام"! مدرسين اللغة وبعض اللي دارسين تاريخ بيبقوا ساعات كتير مهووسين بالحكاية دي لدرجة مستفزة بصراحة.. والاستفزاز مش ناتج غير من فكرة إنك سايب التواصل اللي هو الهدف الأساسي من الكلام ومش بتعمل حاجة غير إنك تكلمني عن الكلام!

لو بأربّي ابني هأضرّه أكتر ما هاأفيده لو مش بأعمل حاجة غير إني أكلمه عن "التربية".. ولو على تويتر مش بأتكلم غير "عن" تويتر زي مين عمل فولو ومين بيريتويت وتويتر كان شكله إيه زمان غالبا الناس هتزهق!

لكننا في الواقع العملي بتاعنا بنشوف ناس كتير بتعمل الحكاية ده بس يمكن مش في اللغة بس.. بنشوف ناس كتير "بتتكلم" عن الديمقراطية.. "بتتشدق" بالحقوق والاحترام وحق تحقيق المصير لكل شعب لكن معظم القصة "كلام عن الديمقراطية".. مش بس كده.. لكن في مجال الأخلاق أو العلاقة الروحانية بالخالق سبحانه.. كام حد بنشوفه "فعلا عايش" أخلاقه في مقابل كام حد "بيتكلم" أو"بيوعظ" أو"بيُخطب" عن الأخلاق والمحبة والسماحة والاحترام؟

كلامنا عن الكلام ممكن يبان لطيف لكنه مش تواصل.. وكلامنا عن الحب وقبول الآخر والتسامح هو في نفس درجة اللطف لكنه مش دليل على وجود الحاجات دي في حياة اللي بيتكلم بيها..

كتير من مدرسين اللغة فاكرين إنهم عندهم قدرة على التواصل باللغة لمجرد إنهم بيعرفوا يتكلموا "عن" اللغة.. وعادة بيبقوا مبهرين.. وبيبانوا هايلين وعلى معرفة قوية.. لكن ممكن يكونوا مش بيعرفوا غيركده.. ونفس الحكاية مع رجال دين أو ناس بتنادي بمبادئ محترمة ومش بيعملوا غير إنهم بيتكلموا ويشرحوا للناس ويوضّحوا ويفسّروا آيات ونصوص ومواقف تحض على المحبة والسلام والقبول.. في حين إن كنّا نتمنى نشوفهم عايشين المبادئ دي.. حاسّين بيها وبيستخدموها بصفة مستمرة في حياتهم للدرجة اللي مانحتاجش فيها إننا نستفسر أو نطلب أسانيد على وجود نصوص للحب والإخاء..

استمتاعي باللغة هو مش استمتاع "باستعراض" أصل كل كلمة بقدر ما هو القدرة على استخدام اللغة في التفاهم والتواصل.. 

لو أنا مش عايش المبادئ اللي أنا عمّال أحاول أقنع الناس إنها صح يمكن أكون مش بأعمل أكتر من إني بأتكلم عن الكلام!