أعتقد إن من أهم الحاجات اللي بتشاور على فهمنا للحياة هي تفسيراتنا للموت.. مش بس كده لكن أغلبنا عندنا أسباب ومواصفات حتى لو ضمنية لمين المفروض يموت ومين لأ.. مين اللي يبقى حرام إنه يموت ومين يستاهل.. وساعات بنفتكر إننا بنتكلم عن الموت لكن أعتقد إننا بتعليقاتنا عن الموت بنعبّر بوضوح عن فهمنا للحياة..
مرّات كتير نسمع عن حد مات بتلاقي واحد يرد يقول "يااه.. ده أنا لسّة شايفه من يومين".. كما لو إن اللي تشوفه من يومين مش هايموت أو ماينفعش يموت على طول كده.. وطبعا اللي بينقل أي خبر مرّات كتير بيحاول إنه يبيّن قد إيه الخبر مهم فبيحتاج إنه يختار التفاصيل اللي تبقى مؤثرة.. فبنلاقي مثلا "شاب يلقى مصرعه إثر مشاجرة على خمسة جنيهات" وتتحول كل المناقشة على فكرة الخمسة جنيه مش على فكرة إن فيه واحد مات وإن كان ممكن ده ما يحصلش.. كما لو إن لو الخناقة كانت على مبلغ مختلف كان يبقى خبر موته منطقي أو أكثر قبولا..
الألم والوجع اللي في تفاصيل الكتير من أخبار الموت والقتل مرات بيغطّوا على قيمة النفس الإنسانية.. فبنلاقي إن اللي بيسمع خبر إن واحد اتقتل في مظاهرة أو غيره بيدوّر على تفاصيل عن الشخص اللي مات عشان يقدر إنه "يندّد" و"يشجب" اللي حصلّه.. فبنسمع مثلا حاجات زي "ده كان طالب متفوق" أو "ده الناس كلها كانت بتحبه".. كما لو إن "الطالب الخايب" يموت عادي مافيش مشكلة.. أو اللي مكروه من الحتة كلها يغور في داهية مش مهم.. الموضوع ده بيفكرني بحكاية "الحق الواد سامي الكهربائي بيعاكس أختك.. <يابني ولا كهربائي ولا يفهم حاجة في الكهربا>".. وتبدأ المناقشة في فكرة هو كهربائي ولّا لأ.. مش في فكرة إن واحد بيعاكس أختك..
فكرة إن اللي اتقتل "طفل" أو لأ.. أو إنه كان متفوق أو ذكي أو بسيط أو فقير أو بيّاع بطاطا هي فكرة خارج السياق تماما.. كل التركيز المفروض يبقى إن فيه نفس بشرية ماتت بدون داعي.. والنفس دي ليها قيمة من قيمة نفخة الحياة اللي ربنا حطّها في كل بني آدم.. كل بني آدم.. الفقير والغني.. المهندس والطالب واللي مش لاقي شغل..
لما تحليلات المعامل من كام أسبوع أثبتت إن فيه "لحم خيول" لقوه في بعض الوجبات في محلات كبيرة في أوروبا الدنيا اتشالت واتحطت.. ماطلعش واحد يقول "إيه يا جماعة متضايقين ليه؟ ماحدش عيي من لحم الخيل".. ماحدش قال "بس على فكرة ده لحم الخيل أصلا غالي ومفيد".. اللي اتقال إن المستهلك بيشتري المنتج ده ولازم المنتج يكون بالظبط زي ما مكتوب على العبوة..
الدخول في تفاصيل جانبية على قد ما هو بيدّي "مُتعة" للقارئ ويخلّيه "يتصعّب" على اللي مات على قد ماهو في نفس الوقت بيضيف أبعاد مالهاش لازمة في مسائل متعلقة بحق كل بني آدم في الحياة.. وبيصعّب الحكاية لما اللي مات مايبقاش عنده التاريخ اللي يبان "مثالي" عشان الناس تشجب موته..
ماينفعش يبقى غضبنا بسبب إن اللي مات كان طفل شوارع أو بيّاع بطاطا أو مهندس أو مدرس.. ماينفعش يبقى سبب اعتراضنا هو إن اللي اتقتل كان رايح درس أو كان متفوق أو كان رايح يلعب بلياردو أو يقعد على القهوة.. مش دي القضية.. القضية هي إن فيه ناس بتموت بدون سبب.. بتموت في بلد مش عايش حالة حرب (أو المفترض يعني).. بتموت مش من عدو في ساحة قتال.. ناس بتموت بسبب إهمال أو رصاصة "عن طريق الخطأ" جات في "الراس" و"الصدر".. هي دي القصة.. مافيش سن معين ولا وظيفة ولا وضع اجتماعي ولا تاريخ مشرّف أو غير مشرف يدّيني الحق إني أسلب حق الحياة من أي بني آدم.. وإذا ارتضينا عدل القوانين الوضعية يبقى مش من حقي أسلب حق الحياة عن أي حد (حتى لو بتأييدي لإعدام فلان أو علان) إلا لو اتحاكموا محاكمة عادلة..
الأولى كمان إننا نشوف اللي عايش تحت خط الفقر وبيعاني طول عمره.. مش نستنى لحد ما يموت وبعد كده نتصعّب على موته.. حوالينا ناس عايشة كأنها ميتة.. بل بالعكس يمكن الموت ليهم أريح.. لكن قُليل ما بنلتفت ليهم وهم عايشين.. أهم عايشين وخلاص..
يمكن جه الوقت اللي فيه نراجع نفسنا لو كنا بالفعل بدأنا نصدر صكوك استحقاق الحياة والموت للي حوالينا.. يمكن المعايير اللي إحنا حاطّينها هي معايير بشرية أنانية مالهاش أي علاقة بالمعايير الإلهية اللي إدت الحياة للإنسان سواء كان ثوري أو فلول أو دكتور أو رقّاصة أو مهندس أو طالب أو رجل أعمال أو إخوان أو مصري أو ألماني أو مخترع أو بيّاع بطاطا..